لا تزال ظاهرة " ناس الغيوان " لغزا محيرا لكثير من الدارسين . فالغيوان تجربة فنية متميزة بل هي فلتة  واستثناء جاء ضد السياق . "الغيوان "تجربة ثائرة فنيا في وقت كان السائد هو الغناء أو الفن المتملق .



***
كلما تأملنا في كلام الغيوان تأكدت لنا الملاحظة التي بدأنا بها هذه المقالات وهي أن البعد الديني لم يكن مجرد غرضا شعري عند الغيوان بجانب أغراض أخرى بل هو رؤية للكون ، ونقصد بذلك أن الرؤية الدينية والقيم الدينية والمصطلحات والخطاب الديني حاضرة بقوة في تناول الأغراض كافة الأغراض الأخرى ومنها  على سبيل المثال  ما يمكن اعتباره "الكلام الغيواني السياسي " الذي تناولا فيه نقض الأوضاع الاجتماعية والسياسية وتعرضوا فيه للاستبداد  الظلم والفوارق الاجتماعية والاقتصادية   .
قصيدة "المعنى" تقدم نموذجا آخر عن هذه الحقيقة ، فبينما يتجه مطلعها لوصف واقع  القهر والخوف والسلبية والانسحاب في مواجهة الفساد حتى إن الناس ليظهرون راضين بالواقع مستسلمين له ، منسحبين خائفين من أن يعبروا بصوت عالي عن معاناتهم في حين أن الثورة على الواقع تضطرم بين جوانبهم ، وينتقد تلك السلبية ويستنهض الهمم باستنكار تلك السلبية مبينا أن آخر المطاف موت ، وبينما تنادي أبيات أخرى من مطلع القصيدة في المقهورين الصامتين أن كفى من ابتلاع الطعام الساخن ، وأن الدار الفسيحة للصابون ( التصبين كناية على إزالة أدران الواقع الفاسد لا يمكن أن تختزل في إناء صغير (جفنة ) كناية على شساعة ساحة المواجهة وما تحتاجه من قوة ومصابرة ، وأنه كفى من معاناة الظلم والجوع  ، مؤكدة على مسؤولية المخاطبين فيما يعانونه، بعد ذلك ترجع القصيدة إلى لازمة تتكرر في أداء الغيوان للقصيدة هي عبارة عن مناجاة  وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وتسبيح بحمد لله وذكر بعض آلائه ونعمه على العبيد  مع ملاحظة أن شعر الغيوان لم سلم في هذه القصيدة مثل أدب الملحون والأدب الشعبي من قضية الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم ،وهي القضية التي انتقدتها الحركة السلفية سواء في المغرب أو المشرق على كلام الصوفية والشعر الصوفي ، حينما تقول القصيدة متوجهة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم   :
آه غير علينا يا مول القبة            دخيل ليك يا رسول الله
وهكذا يقول المقطع الأول من القصيدة في وصف مظاهر القهر المشار إليها ما يلي   :
شكون ف الدنيا على الحق يدافع
ياك لكثير ما فيهم نفع
مطعونين ف الظهر وما ضحينا بالعمر
ياك أخرها قبر
بنادم دالح ما مرتاح
الخوف ولقهر عليه قاضي
ف لعماق الفوضى ومن الفوق يبان البحر هادي
الحق والباطل هنا
الشاهد يزرو لعمى... والحاكم ما يذوق المعنى
يا بنادم دار الصابون ماشي جفنة
الطعام إلى سخون رد اللقمة
يكفانا اللي حنا فيه
يكفى الجوع وما قاسينا
كل شي ديالنا واحنا ماليه   .
أما بالنسبة اللازمة فقد ورد فيها   :
اللهم صل على النبي رسول الله                 يا محمد شفيع أمته زين الصورة
يا سبحان الله الدايم لغني وعاتق لنفاس         يامخضر العشوب بعد ما يبسو
آه  غير علينا  يا    مول   القبة               دخيل ليك  يا رسول  الله
بعد تلك اللازمة ترجع القصيدة إلى وصف واقع المحنة و القهر الاجتماعي الذي يعيش الشاعر تحت وطأته طيلة حياته هو وأمثاله من المستضعفين حتى ضاعت هويتهم وطمست إنسانيتهم ، مستخدما بعض الصور الشعرية والاستعارات الجميلة والبليغة حيث يصور الظلم والاستبداد في صورة الخريف وشبكة الفساد بطبقة علت فوق الطبقات وفرخت الجراد الذي لا يبقي ولا يذر . هكذا يتحدث الشاعر عن سيادة القحط والخريف رغم أن الموسم موسم ربيع  كان من المنتظر أن تنبت أزهاره أي أزهار الرخاء والازدهار كناية على عودة حياة الأمن والاستقرار والعدل . لكن فصل الربيع  لم يف بوعده ولم يتحقق ما كان مأمولا فيه فطال أمد الخريف وزمن القحط وعم جميع الأقطار  .
أما السبب في ذلك فهو هيمنة طبقة واحدة مستبدة ظالمة كبست على الأنفاس وفرخت جرادها والجراد  كناية على  تلك الكارثة التي تأتي على الأخضر واليابس وتذر كل شيء يبابا عند مرورها ، في كناية على ما تفرخه الطبقة الظالمة المستبدة المستأثرة بالخيرات من كائنات متواطئة ومستفيدة مما يؤبد الفساد والاستبداد ويصعب من مأمورية الذين يسعون إلى مقاومته   .
لنقرأ هذه المعاني البليغة في أبيات هذا المقطع الثالث من قصيدة المعنى   :
من كثرة الظلم ظهري تحنى              طول عمري وعيشتي ف المحنة
كثير بحالي ما شافو لهنا                عييت  نفرز  شكون  حنا
الربيع حان وقته ما نبت نواره           لخريف هذا عم كل لقطار
طبقة رسات راسها فوق الطبقات        حطت وفرخت جرادها تما بقات
وتعود القصيدة بعد كل ذلك النقد للواقع السياسي والوصف للقهر التماعي والتمايز الطبقي وتجذر الفساد كي تربط  تلك الحالة بحالة الناس واضطراب علاقتهم بربهم كما يتجلى ذلك في قلة الاستغفار والعودة إلى الله سبحانه وقلة الثقة في الرحمان وفي القيم والفضائل الخلقية التي كانت عليها الأجيال السابقة ، مشيرا على تغير الأحوال بسب الأوصاع المكورة حتى صار الإنسان ميتا في حياته ، فلا حياة كما يبدو من مضمر القصيدة إلا حياة الحرية والكرانة والتصدي للفساد والقهر الاجتماعي والسياسي   .
وهكذا نقرأ في ختام القصيدة   :
اللسان ما يطلب الغفران         ولعمر دايزة ساعتو
عديم الثقة ف الرحمان          ولفضايل اللي فاتو
علينا غيرو الزمان               بنادم ميت ف حياته
كلام الغيوان إذن كلام ملتزم قاصد ذو رسالة ، رسالية سياسية ورسالة إصلاحية منطلقها تعرية سوءات الواقع ، كل ذلك انطلاقا من رؤية دينية واضحة للكون وصدور واضع عن المرجعية الإسلامية ، وذلك هو معنى تسمية هذا القصيدة ب " المعنى   " .
هذا المعنى حاضر بقوة في الأدب الشعبي وفي أدب الملحون لأنه أدب يتغنى بذاكرة أمة بكاملها أمة ممتدة في الزمان التاريخي ،لأنه أدب يعبر بصدق عن وجدان شعب بكامله فلهذا تجاوب الشعب مع كلام الغيوان وذاق معناه .ولذلك نجح الغيوان وسيبقى كلامهم عابرا لزمانهم ومكانهم شأن الإبداع الحقيقي ، بينما ذهب وسيذهب كثير من الهدر واللغو الذي يحلو لبعضهم أن يحسبه على الفن وهو منه براء ، مادام من علامات الإبداع صفة الخلود   .

0 comments:

إرسال تعليق

 
حكمة كل يوم © جميع الحقوق محفوظة